الأوركسترا الوطنية الشرق عربية… بصيص أمل للهوية الموسيقية اللبنانية
صار سِنُّ الأوركسترا اللبنانية للموسيقى الشرق عربيّة ربع قرن. بلغت عامها الـ25، و«هي تعيش صيفَ شبابها»، وفق القيِّمين عليها. من النادر جداً أن تسمع أخباراً إيجابية عن مؤسسة ثقافية رسمية في لبنان، وتشكّل الأوركسترا الوطنية استثناءً في هذا الإطار.
يضرب العازفون الـ40 -بقيادة المايسترو أندريه الحاج- مَوعدَين شهريين مع الجمهور. على قاعدة أنّ حبل الموسيقى يجب ألا ينقطع. يحرصون على أن تبقى روزنامتهم ممتلئة. بالتنسيق مع رئاسة المعهد الوطني العالي للموسيقى (الكونسرفتوار)، يعدّ الحاج جدولاً سنوياً للحفلات، وهي تتنوّع بين موسيقية بحتة وغنائية. يقول إنه ليس من باب الصدفة أن تعيش الأوركسترا هذه النهضة، بوجود الدكتورة هبة القوّاس على رأس «الكونسرفتوار».
«الجمهور العربي، ولا سيما اللبناني، يحب الكلمة والشعر، وهو ليس معتاداً على حضور حفلاتٍ يقتصر العرض فيها على العزف»، كما يوضح قائد الأوركسترا لـ«الشرق الأوسط». كان التحدّي الأكبر بالنسبة إليه اجتذاب الناس، بمختلف فئاتهم السنِّية، إلى أمسياتٍ لا نجمَ غناءٍ ولا كورسَ فيها. ويبدو أن التجربة الحديثة العهد قد نجحت، بفعل إصرار الأوركسترا على تلك المهمة، وبدليل الإقبال الكبير على حفلات العزف.
أما المفتاح إلى آذان الجمهور، فكان كسر الجليد من خلال التفاعل معه، وفتح المجال أمامه لإطلاق العنان لحنجرته. «منذ الحفل الموسيقي الأول، أدركتُ أن التجربة ستنجح. عندما سمع الجمهور نغم أغنية (طريق النحل) للأخوين رحباني وفيروز، تحوّل إلى كورس فكانت لحظة مميّزة جداً».
في إحدى قاعات المعهد، تتمرّن الأوركسترا بوتيرة يوميّة. التناغم بين أفرادها ليس موسيقياً فحسب؛ بل إنه إنسانيّ أيضًا. الألفة واضحة بين رفاق النغم والإيقاع. منهم مَن أمضى عمراً هنا، ومنهم مَن انضمّ حديثاً إلى الأوركسترا: «حرصاً على ضخّ الدم الشاب في عروقها»، وفق تعبير الحاج.
لكن كيف لكمانٍ وعودٍ وقانون وناي ودفّ أن يصارع الموجات الموسيقية الجارفة التي تستميل الجيل الصاعد؟ «علينا أن نواصل ما نقوم به بانتظار عبور الموجة»، كما يعلّق الحاج. في الأثناء، تسمح الأوركسترا لنفسها بالخروج عن الإطار الصارم، من خلال إدخال كثير من الألوان إلى المحتوى الذي تقدّمه. ثم إنّ حفلاتها كافة مجانية منذ تأسيسها عام 2000، وهي تتنقّل بين مسارح مناطق لبنان، من شماله إلى جنوبه.
على جدول المواعيد المقبلة، حفلٌ بمشاركة مميّزة لجوقة الأطفال في «دار الأيتام الإسلامية». بالموازاة، التحضير جارٍ لحفلٍ بالمكتبة الوطنية في بعقلين، ولآخَر سيكون بمنزلة تحية للمؤلّف الموسيقي نور الملّاح.
ليست تلك التحية الأولى من نوعها في مسيرة الأوركسترا، فهذا تقليدٌ درجت عليه منذ تأسيسها على يدَي الموسيقار وليد غلميّة. «أردتُ أن أكمل ما بدأه الدكتور غلميّة»، كما يقول الحاج. «تلك الحفلات التي نوجّه فيها التحية إلى الفنانين اللبنانيين المؤسِّسين، لعبت دوراً كذلك في تقريب الناس من الأوركسترا».
الانحناءات الموسيقية أمام قاماتٍ صنعت مجد الفن اللبناني فاقت الـ30 حتى الآن، وشملت أسماء، من بينها: الأخوان رحباني، وفيروز، ووديع الصافي، ونصري شمس الدين، وإلياس الرحباني، وصباح، وملحم بركات، وإيلي شويري، وإحسان المنذر، ومارسيل خليفة، وأحمد قعبور، وغيرهم.
يؤمن المايسترو أندريه الحاج الذي يستلهم كثيراً من ثقافة الأوركسترا في الغرب، بأنّ «في الاتّحاد غِنى». كلّما سنحت الظروف، يستضيف زميلاً له من خارج لبنان لقيادة الأوركسترا الوطنية بدَلاً عنه في إحدى الحفلات. «أتوا من الأردن، وسوريا، وفلسطين، والمغرب، ومصر… هذا أثرى الأوركسترا ومكتبتها».
من ضيوف الأوركسترا كذلك، عازفون ومغنّون ساهموا في صناعة ألَقِها وبريقها. من نصير شمّة، إلى غسان صليبا، وملحم زين، وجاهدة وهبة، وأميمة الخليل، وغادة شبير، وعبير نعمة، وسميّة بعلبكي، وكارلا رميا… كلّهم نجومٌ ضمّوا أصواتهم ونغماتهم إلى أوتار الأوركسترا وإيقاعاتها.
وفق قائدها، فإنّ أبرز إنجاز في سجلّ الأوركسترا، هو «ترسيخها يوماً بعد يوم هويّتها اللبنانية». فإلى جانب البرنامج الموسيقي اللبناني الذي تلتزم به بشكلٍ شبه دائم، كلّما سافرت الأوركسترا أو قائدها، حملا معهما الهوية الموسيقية اللبنانية. «في دار الأوبرا بالقاهرة مثلاً، كان برنامجاً لبنانياً صرفاً. صدحت الأغاني اللبنانية بحناجر الكورس المصري وأنامل الموسيقيين المصريين، عندما دُعيتُ لتقديم حفلٍ هناك»، كما يخبر الحاج.
حرصاً على تلك الهوية، يُطلق الحاج نداءً إلى وزارة الثقافة، هو بمنزلة تذكير: «على الأوركسترا الوطنية الشرق عربية أن تمثّل لبنان، وتكون وجهه الموسيقي في كافة المحافل الثقافية العالمية».
بعد 14 سنة على رأس الأوركسترا، لم يفقد أندريه الحاج شيئاً من حماسته وطاقته. الفنان الآتي من عالم تدريس الموسيقى وتأليفها وعزفها، لا يطمح إلى المناصب بقدر ما يفرح «بعائلة الأوركسترا والراحة التي تنبعث منها».
بعد أن كان عازف عود أوّل في صفوف الأوركسترا، لمح فيه المدير السابق للكونسرفتوار وليد غلميّة، مشروع مايسترو. «غيّر الدكتور غلميّة مسار حياتي عندما أولاني هذه المهمة»، كما يقول الحاج.
ليس عمل قائد الأوركسترا سهلاً. يبصر منه الجمهور الظاهر فقط، من عرضٍ حي وأداء على المسرح لشخصٍ يدير لهم ظهره ويحرّك العصا، أما الباقي فساعات طويلة من التمرين وتشريح النصوص الموسيقية وتحفيز العازفين. كما لو كانت لديه آذانٌ على عدد الآلات الموسيقية، وكما لو كان هو الميزان الذي يحقّق التعادل والتناغم بينها.
بين تمرينٍ وآخر، يحلو للحاج أن يجلس بين العازفين حاملاً الكمان: «حبي الأول والحقيقي قبل العود». ولكن ماذا بعد لقب «مايسترو»؟ يحلم بأن يختم مسيرته بتأسيس أوركسترا طالبية، فهو من التعليم أتى وإلى التعليم يحب أن يعود.